الجمعة , نوفمبر 22 2024

امتثال الراقصة تحدت الشامي فقتلها ،وهكذا مثلت قصتها ماجدة الخطيب بالسينما

في ليلة صيفية من ليالي مايو/ ايار سنة 1936 وجد المارة جثة غارقة في دمائها ملقاة أمام «كازينو البوسفور» المعروف بمكانه المميز وأنواره المضيئة في ميدان باب الحديد (رمسيس حاليًا)، وباقتراب أحد المارة من الجثة وجدها مطعونة بـ«رقبة زجاجة»، حاول الشخص طلب النجدة، من قسم الأزبكية القريب من المكان. ومع تجمع المارة وزيادة الجلبة والتساؤلات حول هوية المقتولة، خرج زبائن الكازينو وبعض العاملين فيه ليشاهدوا ماذا حدث، لتصيح إحداهن: «إنها امتثال.. ماتت أبلتي امتثال»!وقبل أن تنتصف ليلة الخميس 21 مايو/ ايار جاء شرطي من قسم الأزبكية، وقد غطى المارة، الجثة بأوراق الصحف الصادرة يومها، والتي كانت تشير إلى اقتراب انعقاد مجلس النواب ترحيبًا بقدوم الملك فاروق، خلفًا لأبيه فؤاد، ووسط نحيب العاملات في الكازينو وبكاء غارسوناته، قرر الشرطي نقل الجثة إلى أقرب مستشفى، لبدء إجراءات التحقيق، في قضية هزت المجتمع المصري حينها، والتي لولا تأخر زمن السوشال ميديا لنالت لقب «قضية القرن»، وهي قضية اغتيال الراقصة امتثال فوزي.

من هي امتثال؟

إمتثال فوزي اسمها الحقيقي أسماء وهي مشهورة باسم إمتثال، وعاشت مع والدتها التي كانت تعمل «عالمة» تغني وترقص في كازينوهات ومقاهي الثغر، ومع زوج أمها البلطجي، الذي سعى بكل الطرق إلى محاولة إجبارها على ممارسة الرذيلة مع زبائن الكازينوهات التي كانت أمها تعمل بها، ولكنها تهرب منهما، فتقع في يد مجموعة من الجنود الإنجليز الذين يتناوبون على اغتصابها، فتعود من جديد إلى زوج أمها، وتوافق على ممارسة الرذيلة بأجر،لم تسلم امتثال من شر زوج الأم، الذي لم يكن يعطيها حتى أجرها بعد ممارستها للرذيلة مع الغرباء، في ظل صمت الخاضع من الأم، فتقرر الهرب من جديد، ولكن هذه المرة إلى العاصمة، القاهرة، لتبدأ رحلة في منطقة روض الفرج.عملت كراقصة في البداية، ثم تعرفت على أحد الوجهاء، ابن أحد البشاوات أصحاب الحظوة في مصر خلال تلك الفترة، فأعجب بها وتوسط لها عند بديعة مصابني لتعمل في فرقتها الشهيرة. أعجبت بها بديعة، وتنبأت لها مثلما تنبأت بأهم فنانين مصر في عشرينيات وثلاثينيات القرن الـ20، وأدخلتهم حظيرتها، وكانت امتثال فوزي بالتأكيد إحداهن..

سكنت امتثال في سكن مشترك مع صديقاتها في الفرقة، حتى شاهدها أحد بلطجية الشارع، وطلب منها أموالًا مثلما كان يفعل مع كل راقصات الشارع تقريبًا، لكنها رفضت، فأعجب بها وبشخصيتها، وحاول التقرب إليها، وهنا استغلت امتثال حبه لها، وقوته وبطشه على أصحاب الكازينوهات في الشارع، وكذلك علاقته بالإنجليز، حتى صارت ملكة شارع عماد الدين.عاد الوجيه ابن الباشا إلى الصورة من جديد، ليعرِّفها على مخرج مسرحي شاب أتى للتو من باريس، فأحبته امتثال، وعندما عرف البلطجي هددها بالقتل، لتلجأ إلى المخرج الشاب الذي اقترح عليها أن تعيش معه في منزله وأن تعتزل الرقص، فوافقت بالفعل، وعاشت معه، فلما حملت طلب منها التخلص من جنينها، ولكنها فشلت في التخلص منه، فطردها لتعود إلى أمها في الإسكندرية!.

عادت امتثال من جديد إلى الجحيم، ولكنها لم تيأس، فطلبت النجمة التي اعتزلت الرقص من ابن الباشا أن تعود للقاهرة من جديد، ولكنها هذه المرة جاءت بقوة الباشا، وبقوة حظوته لدى الشرطة المصرية، وبالفعل تحدت الجميع هذه المرة، وافتتحت كازينو خاص بها مجاور لقسم الأزبكية، لتكون بعيدة عن سيطرة البلطجي المحب المغدور به.عرف البلطجي بأمر الكازينو، فاشتاط غيظًا، وأرسل لها رجاله يطلبون منها دفع الإتاوة من جديد، فرفضت وتحدته مرة أخرى، فقرر البلطجي أن يجعلها عبرة لمن يتحداه، فاستأجر قاتل محترف ليتخلص منها، وبالفعل ذهب القاتل وطعنها بـ«رقبة زجاجة»، ويتم القبض عليه وعلى البلطجي.

تنتهي قصة امتثال هنا، ولكنها ليست امتثال الحقيقية التي نبحث في قضية مقتلها، بل هي امتثال أخرى اخترعها الكاتب الكبير الراحل ممدوح الليثي، في فيلم بعنوان «امتثال» أخرجه حسن الإمام، قال صناعه إنه مأخوذ عن واقعة اغتيال الراقصة الشهيرة، وقد قامت بدور امتثال، ماجدة الخطيب، وقام بدور البلطجي، عادل أدهم، وقام بدور الوجيه ابن الباشا، سمير صبري، وقام بدور المخرج المسرحي، نور الشريف، أما بديعة، فكانت نجوى فؤاد.

القصة الحقيقية

في قرية مير، وهي إحدى قرى مركز ديروط بأسيوط، ولدت فتاة جميلة لعائلة فقيرة الحال كباقي أهل القرية، أسموها «أسما»، وككثير من أبناء قرى الصعيد حينها كانت الهجرة إلى القاهرة أو الإسكندرية هي المفر لتغيير حياتهم إلى الأفضل، فهاجرت «أسما» مع والديها إلى الإسكندرية.ولضيق ذات يد الأسرة النازحة، عاشت «أسما» في بيت أسرة يونانية سكندرية ألحقتها في البداية بمدرسة «أميزوف» بمنطقة العطارين. بعض من كانوا يعجبون بجمالها ويرقبون تحركاتها يقولون إنها كانت خادمة الأسرة، وبعضهم قال إنها كانت تتدرب على أعمال الخياطة مع زوجة صاحب البيت اليوناني التي كانت من أشهر الخياطات في الإسكندرية، أما الخواجة فكان من أهم أصحاب الدكاكين التي تبيع كل شيء، من أول البقالة إلى لعب الأطفال.في البيت اليوناني تعلمت «أسما» مهنة الخياطة، كما تعلمت أيضًا اللغة اليونانية، حتى كان يظن من يسمعها (ترطن) بها أنها من بنات أثينا، لا بنات الصعيد أو الإسكندرية. ولأن أسما كانت فائقة الجمال، كان العرسان يتهافتون على منزل الخواجة اليوناني باستمرار، وفي أحد الأيام، وبينما «أسما» قد أتمت الرابعة عشرة من عمرها، جاءها عريس لم تستطع الأسرة رفضه، كان ابن أحد المستشارين في محكمة الاستئناف، ما يعني أنه ذو نفوذ وجاه ومال، وهو الأمر الذي بدّل حياة أسما كثيرًا.ولكن حياتها الميسورة تلك لم تستمر سوى عامين اثنين فقط، إذ انفصلت عن الزوج، بعد أن عانت من سوء معاملته.خرجت أسما من بيت ابن المستشار إلى شوارع الإسكندرية، سارت فيها بعد أن تقطعت بها السبل، فهي لا تريد العودة إلى المنزل الذي دفع بها طفلة في أحضان رجل مكتمل الرجولة، كما أنها لا تريد الرجوع إلى الحياة البائسة التي عاشتها طوال عامين كاملين مع رجل اعتاد على إهانتها. هنا تذكرت ما كان يقوله الرجل اليوناني عن مقهى اسمه «الغزاوي»، والذي كان يجتذب الراقصات الناشئات، فتبقى فيه الواحدة منهن حتى يلمع اسمها وترتفع أسهمها، ثم تتركه إلى الملاهي الفاخرة في الإسكندرية أو القاهرة.

احتراف الرقص

ذهب الخواجة اليوناني إلى البوليس بعد أن طال غياب أسما. ذهب ليبلغ عن اختفاء الفتاة الصغيرة. مر كذلك على المستشفيات بحثًا عنها. وبعد أيام استُدعى الخواجة إلى قسم الشرطة ليقول له الضابط إن أسما لم تغرق في البحر ولم يأكلها الترام، كما لم يخطفها أحد المعجبين، بل احترفت الرقص في «مقهى الغزاوي».

لم يصدق الخواجة ما قاله ضابط القسم، بل ذهب بنفسه إلى المقهى، فوجد أسما وهي ترقص والجمهور قد ملأ المقهى ضجيجًا من أجلها، فقد كانت أجمل وأصغر راقصة فيه، وكانت بالنسبة لجمهور المقهى اكتشافا جديدًا لم يسبق له مثيل. مقاهي الإسكندرية كانت بمثابة كازينوهات كاملة، فقد دخلت أسما المقهى طالبة عمل، فلا عمل هنا سوى الرقص، الرقص ولا شيئًا غيره لمبتدئة صغيرة مثلها، فالغناء أمر يبدو أصعب بكثير، ويحتاج إلى خبرة كبيرة. وافقت، ورقصت، وصنعت اسمًا مهما في عالم الرقص في الإسكندرية، لكنها ومع أول محاولة للغناء بعد رضوخ أصحاب «مقهى الغزاوي» وغيره من المقاهي، غيرت أسما اسمها إلى امتثال فوزي، أو «امتثال اليونانية» كما كان يلقبها الزبائن، نظرًا للغتها اليونانية السليمة التي كانت تستخدمها كثيرًا في تعاملاتها اليومية بينها وبين أصحاب المقهى ورواده. ويروي التحقيق المنشور في مجلة «المصور» أنها فكرت في الهجرة إلى القاهرة بعد أن التقت بماري منصور في مقاهي الإسكندرية، إذ أقنعتها ماري بالذهاب إلى العاصمة لاحتراف الغناء والفن، وهي رواية تتنافى مع ما ذكرته جريدة «اللطائف المصورة» في عددها الصادر في الأول من يونيو سنة 1936، من أن صيت امتثال وصل إلى القاهرة بالفعل عن طريق الجمهور الذي كان يسافر خصيصًا ليشاهدها في الإسكندرية، وأن أول من فكر في استدعائها إلى القاهرة النجمة الكبيرة بديعة مصابني، صاحبة «كازينو بديعة»، التي أرادت أن تعمل لديها امتثال لتنضم إلى جوقة النجوم الكبرى الذين خرجوا من الكازينو، فقيل إنها أرسلت لها عددًا من الوسطاء لإحضارها.

الفتوة

في ذلك العصر كان للفتوات شأن كبير، وكانوا يفرضون إتاوات على كل الناس،في الكازينو التقى الشامي البلطجي بامتثال، لأول مرة، وكان الانبهار بجمالها والمال الذي يسيل تحت قدميها. ويقال إن الشامي بعد اللقاء الأول خرج إلى الشارع في حركات هيستيرية استعراضية يأمر أفراد عصابته بضرب كل من يتعرض لامتثال أو يضايقها من قريب أو من بعيد.لكن امتثال لم تكن تطيقه ولا تطيق أفعاله. لم ترضخ مطلقًا لسطوة البلطجية وعتاة الإجرام، فلم يكن فؤاد الشامي من النوع الذي يثير اهتمامها أو إعجابها حتى لو هو أبدى ذلك، فقط لأنه بلطجي. لم يصدق الشامي نفسه بعد هذا الرفض وعدم الاهتمام واللامبالاة التي تقابله بها امتثال، فلجأ إلى فرض الإتاوة، فرفضت مثلما رفضت أي محاولة ابتزاز من عصابات البلطجية الآخرين.وفي مرة، وفي حضور الشامي للكازينو، ذهب رجاله إلى امتثال يبلغونها أن زعيمهم يرغب في جلوسها معه، فقد نظرت إليهم بلا مبالاة، ولم تجبهم بكلمة واحدة، ومضت بعد رقصتها لترتاح في حجرتها الخاصة بالملهى. ذُهل أفراد العصابة، وذُهل فؤاد الشامي نفسه، فإن بديعة مصابني نفسها، وهي ما هي في شارع عماد الدين وفي عالم الاستعراض بمصر، تلاينه ولا تتجهم في وجهه، فكيف لهذه الامتثال أن تقف أمامه هذا الموقف العنيد. لا إتاوة، ولا ريق حلو.فكر فؤاد قليلًا، ثم قرر ألا يبتزها بالقوة والإرغام، فقد كان واقعًا في حبها، مؤملًا أن يكون تصرفها هذا نوع من الدلال وليس لونا من الازدراء والتعالي، فقرر الذهاب إليها بنفسه، وعرض عليها حمايته وقلبه، ولكنها رفضت، فقال لها: «ادفعي إذن 50 جنيهًا في الشهر». ابتسمت امتثال في وجه الشامي بسخرية، مؤكدة له أنها لن تدفع شيئًا، بل شتمته باليونانية! الغريب والمريب في الأمر أن ماري منصور شريكة امتثال فوزي في إدارة الكازينو كانت تدفع للشامي نصف المبلغ!

الحب والابتزاز والموت

فرض الشامي عليها إتاوة قدرها 50 جنيه شهري لحمايتها، لكنها رفضت دفع الإتاوات وأمرت بطرده هو ومعاونيه، خاصة أنهم يحتسون الشراب دون أن يدفعوا مقابل، لكنه استمر في تهديده لها ما دامت تحاربه في كسب لقمة العيش، استمر في تهديدها بضربها وهددها بقتلها إذا لم تدفع، حينها أبلغت إمتثال رجال الشرطة، وكان قسم الأزبكية بجوار كازينو البوسفور.علم الشامي بذلك وشعر حينها أن هيبته ضاعت بين رجاله، وما زاد الموقف سوء هو رفض بعض راقصات عماد الدين دفع الإتاوات، مما دفع الشامي إلى تكليف أحد رجاله وهو “كامل الحريري” بقتل امتثال، وفي مساء يوم الجمعة 22 مايو/ ايار 1936،  انتظرها الحريري خلف مسرح البوسفور وقام بغرس زجاجة مكسورة في عنقها فماتت على الفور، ثم هجم رواد الكازينو على القاتل وضربوه.اعتقل كامل الحريري واعترف خلال التحقيقات بأن الذي حرضه على قتل امتثال هو فؤاد الشامي، وتم اعتقاله هو الآخر وحكم عليه ورجل عصابته بالأشغال الشاقة المؤبدة، حينها وكل النحاس باشا اثنين من موظفي الداخلية لحضور التحقيق وإعداد تقرير، وانشغلت الصحف بالحدث فظهرت الحادثة بالصفحات الأولى في صحف (السياسة، العروسة، دار الهلال، اللطائف المصورة)، وكانت الحكومة تتعرض لضغوط متزايدة للقضاء على المتنمرين، وفى ذلك الوقت شنت مجلة روز اليوسف حملة ضد الفتوات ورجال الشرطة بسبب التساهل معهم مما أدى إلى تزايد أوضاعهم، والأسوأ من ذلك مقتل الراقصة سكينة الشهيرة بعيوشة، بعد قتل امتثال بأربعة أيام فقط.

الاعتراف والحب

ظل الشامي بالسجن حتى عام 1957م، وعندما خرج من السجن اعترف بذنبه الشديد، قائلا: “الله يخزي الشيطان، لقد كانت امتثال جميلة حقًّا، لا تستعمل مواد زينة، وأيضاً كانت محبوبة من زميلاتها ومن العاملين معها، وكانت إذا كنت أطلب منها فلوس كانت تشتمني باليوناني، فأقول لها: لو كنتي شاطرة اشتميني بالعربي، فتنطلق فورًا في شتمي بالعربي دون أن تخاف مع أني كنت شيطان فظيع، ولكنني كنت أحبها”، واعطته محافظة القاهرة كشكًا لبيع الحلوى وظل يبيع ويشتري حتى مات.

فيلم إمتثال

تم عمل فيلم في سنة 1972 باسم “إمتثال” بطولة ماجدة الخطيب في دور امتثال وعادل أدهم في دور فؤاد الشامي، وتم فيه دمج قصة إمتثال فوزى مع قصة الراقصة عيوشة.تدور قصة الفيلم حول إمتثال التي هربت من منزلها بعد أن ذاقت الأمرين من زوج الأم وسيطرته عليها، لتعمل راقصة في ملهى ثم اقتربت من بلطجي الملهى وأغرته فأصبحت ملكة شارع عماد الدين، ولكن عندما اكتشف أنها على علاقة بشاب آخر  يسمى ناجي يقرر الانتقام منها..

المونولوج الاخير

أما في عدد جريدة الأهرام التي صدرت بعد رحيل امتثال بثلاثة أيام قال محرر باب الفن إن امتثال قبل مصرعها غنت للملحن الشهير فريد غصن مونولوج اسمه «الوداع»، تقول كلماته: «ليه يا دنيا غدرتي بي.. صحيح مفيش فـ الدنيا أمان.. ليه زدت همي وتعذيبي.. شفت العذاب أشكال وألوان»، ويقول المحرر إنها عندما سمعته لم تتمالك نفسها، وبكت، وكأنها تودع الدنيا.

Check Also

حكاية خطوبة لم تكتمل بين يسرا وسمير صبري

استطاعت يسرا منذ بدايتها الفنية، أن تسرق قلوب الجمهور وتكون من أجمل وأشطر ممثلا جيلها، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *